الأحد، ٩ يناير ٢٠١١

العقل العربى بين الغزالي و ابن رشد









 أقتباس مهم جداً من كتاب سجون العقل العربي للمفكر الكبير طارق حجي

ويضاف لذلك أن العقلَ الإسلامي واجه ما يشبه المعركة بين أبي حامد الغزالي والذي لا يؤمن بأن العقلَ قادرٌ على إدراك الحقائق وبين ابن رشد أكثر مفكري العرب إعلاءً لشأن العقل؛ وهو ما يتضح من التناقض الواضح بين آراء الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) وآراء ابن رشد في كتابه الفذ (تهافت التهافت). والخلاصة أنه في عالم الفقه (وهو عمل بشري محض) فقد كان التوسع للمدراس التي تحبذ قبول آلاف الأحاديث عن إِعمال الرأي؛ وبمحاذاة ذلك ففي عالم الفكر ( علم الكلام بلغةِ العرب في ذلك الزمان والفلسفة بلغةِ العصر) فقد كانت أيضًا الغلبة لمدارس النقل والحدس (الغزالي) وقلة أثر مدرسة العقل (ابن رشد) (وإن كان الأوروبيون هم الذين استفادوا من أطروحات ابن رشد).
وخلال رحلةٍ استغرقت نحو عشرين سنة تكوّن لدي نفورٌ قويٌ من الذين أُسميهم "عبدة الحرف" و "أسرى النقل"؛ كما تكون لدي ولعٌ شديدٌ بأصحابِ العقلِ وفي مقدمتهم "ابن رشد" الذي استفادت منه أوروبا وخسرناه نحن (وخسرنا معه فرصةً تاريخيةً للتقدمِ). ورغم مطالعتي المدققة لكلِ آثارِ ابن تيمية وأعلام مدرسته (من ابن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي) – فلم تزدني تلك المطالعةُ إِلاَّ نفورًا من هذا التيارِ الكاسحِ وفي الوقتِ نفسه زاد ولعي من جهةٍ بالمعتزلةِ ومن جهةٍ أُخرى بمن قطعوا رحلةً طويلةً على "دربِ العقلِ" مثل ابن سينا والفارابي …ثم بإمامِ أهلِ العقلِ قاطبةً "ابن رشد".
وكنتيجةٍ لتلك الصورة العامة فقد عرف المسلمون نمطين لفهم الإسلام: نمطًا متشددًا شديد الغلو في التحريم والتجريم والتنظيم، ولم يكن هذا النمط موجودًا إلاَّ في الفرق السرية (وهي قليلة في عَددِها وأثرِها) وفي المناطق البدوية بالجزيرة العربية. أما الأماكن الأكثر ازدهارًا عقليَّا وذات الجذور الحضارية العريقة مثل مصر والعراق وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع فقد ساد فيها فهم للإسلام يتسم بدرجة عالية من المرونَةِ والتسامحِ وقبولِ الآخر وعدم تكفير أصحاب الرؤى المختلفة.

إن النصوص الإسلامية تحتمل كل التفسيرات. وقد قالها أوائل المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة عندما كرروا (القرآن حمّال وجوه). والعبرة ليست بالنص (أي نص) وإنما بمن يقرأ ويفهم ويقدم النص.

وعندما كنتُ أعكف على مطالعة أَعمالٍ للغزالي مثل (إحياء علوم الدين) و(معيار العلم) و(معيار العمل) و(المنقذ من الضلال) و (المستصفى من علم الأصول) و (تهافت الفلاسفة) وأُقارن قدر ما بها من "بُعد عن العقل" وما بكتابات ابن رشد من "ثقل عقلاني هائل" كنت أُذهلُ: كيف نالت كتاباتُ "الغزالي" كل هذا التقدير(المبالغ فيه إلى أبعد الحدود) وكيف نالت كتابات "ابن رشد" كل هذا التجاهل (المبالغ فيه إلى أبعد الحدود): ويكفي أَن يعكف قارئٌ جادٌّ على مطالعةِ كتابِ (تهافت الفلاسفة) للغزالي ثم يعقب ذلك بمطالعته كتاب ابن رشد (تهافت التهافت) ليرى البونَ الشاسع في العمقِ وإِعمالِ العقلِ. كذلك ما أكثر ما تساءلت: كيف أخفى مؤرخو الفكر الإسلامي مواقفَ الغزالي المؤيدة للحكام المستبدين بشكلٍ مفرطٍ؟ …وفي المقابل: فقد كان "ابن رشد" مصدرَ ألمٍ دائمٍ للحكامِ المستبدين الراغبين في (تنويم العقول) لأن في ذلك الضمانة الكبرى لأمرين: بقاء الأَحوال على ما هي عليه، ثم بعدهم عن المساءلةِ، فالعقلُ هو مصدر الأسئلة، والأسئلة تؤدي للمساءلة، وكما يردد صديقٌ من المفكرين المستنيرين: فإن الأسئلة مبصرةٌ – والأجوبة عمياءٌ !

وأكررُ أنه كثيرًا ما شغلني هذا السؤَالُ :لماذا انتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي (وهو يمثل النقل وتقديس السلف ولا معنى للعلم عنده إلاَّ العلم بالدين ويفتح المجالَ أمام إلغاء العقل كليةً بإنكاره إمكان تحصيل المعرفة (أو إدراكها) بالحواس في مواجهةِ ابن رشد (وهو العامـر بنـورِ العقلِ والزارع لكلِ بذورِ نهضةٍ خسرناها)؟ …ما الذي سهَّل للغزالي هذا الانتشار، وصعّب على ابن رشـد مثلـه؟ …وقد استغرقَ الأمرُ سنواتٍ عديدةٍ لأعرف أن العلامةَ الفارقَة كانت هي (الاستبداد). فكيف يمكن لحكامِ المسلمين في زمنِ الغزالي وابن رشد أن يروق لهم فكرٌ إلاَّ فكر الغزالي؟ وكيف لأوروبا التي كانت تحارب معركتها العقلية مع الكهنوت أن تنتصر لأحدٍ كما انتصرت كليةُ الآداب بجامعةِ باريس في القرن الثالث عشر لأفكارِ ابن رشد؟ …لقد كان الاستبدادُ في عالِمنا سائرًا نحو ذروته – فكان الاعجابُ بكتاباتِ من وصل لحدِ إلغاءِ دورِ العقلِ هو الاختيار الواقعي الأمثل. وكان الاستبدادُ في أوروبا قد بدأ يترنح، لذلك فإن قوى التنوير قد نصرت ابن رشد العربي المسلم على توماس الإكويني الأوروبي المسيحي (صاحب نظرية السيفين).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق